التنمية المحلية من خلال تجربة الفعل المقاولي السياحي: (الساحل التونسي مثالاً)
عادل بوزيد
تمهيد:
لا تزال مقولة التنمية تلقي بضلالها على العديد من الأبحاث و الدراسات من مختلف الاختصاصات، ولئن اختلفت زوايا التحليل و القراءة لمنوال التنمية المرجو،فإن الثابت أن المنوال المثالي للتنمية ذلك الذي يتوفر فيه جانب الخصوصية و المحلية مقارنة ببقية التجارب الأخرى ،بمعنى أن الفعل التنموي يستمد بالضرورة من طبيعة الواقع الاجتماعي و الثقافي والاقتصادي المعيش بعيدا عن نهج الإسقاط و التعسّف فضلا عن التمشي الرصين والمرحلي، واستيعابا و توظيفا لكل الفاعلين الاجتماعيين و كل المناطق و الجهات،و لكن قد يختلف البعض في رسم ملامح و تمشيات الفعل التنموي فهناك من يعتبره أنه فعل ينطلق من المستوى الوطني ثم يأخذ في الانتشار و التوسّع و الامتداد إلى المستوى المحلي بينما يعتبر البعض الآخر أن الفعل التنموي المنظّم و الحقيقي هو ذلك الذي ينطلق من المستوى المحلي و من رحم القوى الشعبية الحيّة واستنادا إلى خصوصية كل الجهات و المناطق وصولا إلى تكامل و توازن على المستوى الوطني. ضمن هذا السياق نطرح الفعل السياحي بالساحل التونسي كمثال للتنمية المحلية.فما المقصود بالتنمية المحلية؟ و ما هي خصوصية تجربة الفعل السياحي بالساحل و إلى أي مدى أثّر على المنوال الوطني للتنمية؟
1- في مدلول المجتمع المحلي و التنمية المحلية:
أ- المجتمع المحلي: إن إدراجنا لمقولة المجتمع المحلي ضمن هذا السياق يعزى إلى كون فكرة التنمية المحلية لم تكن لتظهر و تتبلور ما لم تستبق بفكرة المجتمع المحلي مثلما أن طرح مسألة التنمية المحلية دون التطرّق إلى فكرة المجتمع المحلي تبقى عملية مبتورة ومبهمة،و عموما يذهب بالقول روّاد هذه الفكرة أن المجتمع المحلي ظاهرة أخلاقية روحية تعبّر عن الشعور بالهوية والوحدة و الانتماء للجماعة و الانغماس من جانب الفرد في الجماعة،و من ثم يشير مفهوم المجتمع المحلي إلى حالة يحدد فيها الإنسان نفسه مرتبطا وبشدة في نسيج العلاقات المباشرة مع غيره من الأفراد في مقابل المجتمع الكلي أو الجماعي الذي يشير إلى حالة تنعدم فيها مثل هذه الروابط و تؤدي بالفرد إلى مزيد من الإحباط والعزلة و الاغتراب[1] ،و يعتبر بعض علماء الاجتماع أن بروز مفهوم المجتمع المحلي هو تعبير عن الاشتراك في الرغبات و التوحّد في المشاعر و الاشتراك في الأهداف في مقابل المجتمع الكلي الذي يعبّر عن الاغتراب و الانفصال العاطفي و فردية الاهتمامات والمصالح واللاانتمائية،و يعتبر عالم الاجتماع روبرت نسبت R .Nisbet أن أهم ما يجب الاهتمام به في علم الاجتماع هو موضوع المجتمع المحلي و أن ما يدعّم هذه الحاجة في نظره أن الظروف السائدة و الأحوال المسيطرة على المجتمع الحديث لا توفّر للفرد شعورا بالأمن و الرضا و الإشباع ،ففي الوقت الذي تستطيع فيه الدولة الحديثة بتنظيماتها الأكثر تعقيدا و الأكثر بيروقراطية أن توفر للفرد عجائب كثيرة و منجزات متعددة في مجال السياسة و التعليم و الإنتاج ووسائل الاتصال أو أن تثير فيه الاهتمام بقضايا مجتمعية كبرى كالحروب و الثورات و الجهاد، تبتعد في الحقيقة عن المعاني المستقرّة في النفس البشرية وتعجز بالتالي عن الوفاء بالحاجات الإنسانية كالحاجة إلى الاعتراف و التقدير و الانتماء والأمن و لذلك يصبح البديل الوحيد لتفشي ظاهرة الاغتراب و فقدان المعايير في المجتمع هو الرجوع إلى المجتمع المحلي لأنه يستجيب و يدعّم الحاجات الأساسية للإنسان[2]، وبسحب هذا التأويل على النسيج الاجتماعي التونسي و ليس بالضرورة تزامنا مع ثورة14 جانفي 2011 و إنما قبل هذا التاريخ نجده ينطوي على كثير من الواقعية و المعقولية بدليل أن المجتمع الكلي أو الجماعي التونسي أضحى فعلا عاجزا عن استيعاب كل أجزائه، وعبثا حاولت الدولة الوطنية الفتية عشية الاستقلال تكسير البنيات الاجتماعية التقليدية واجتثاث فكرة القبلية و الجهوية من الذهنية المجتمعية لكن دون جدوى ،بل بالعكس ضلت هذه الإيديولوجيات تنمو و تمتد عبر التاريخ بمفعول الإقصاء والتهميش الذي تلقاه بعض المناطق و الجهات من قبل المجتمع الكلي أو بالأحرى الدولة ، و دليل ذلك ما أنتجته ثورة 14 جانفي 2011من نعرات جهوية و قبلية أدخلت المجتمع في زوبعة من الفتن والضغائن، و بالتالي ارتداد إلى المستوى الجهوي و المحلي إلى حد تبلور نوع من العدوانية للمجتمع الكلي والجماعي بما دفع الأفراد إلى اللجوء إلى المجتمع المحلي أين تتوفر فيه عناصر التشابه و التماثل أكثر و ربما يتيح الشعور بالرضا و الإشباع. لذلك يعرّف المجتمع المحلي بكونه جماعة فعلية من الأفراد تتميّز بعلاقات المواجهة المباشرة والتي يسهل فيها مثول الآخرين لأي فرد فيها و التي يشارك فيها كل فرد بايجابية في الحياة اليومية بنوع من الألفة و المودة ، مثلما أن هذا المجتمع هو وحدة ذات تنظيم اجتماعي ومكاني معيّن تنشأ خلال عملية المشاركة في مكان محددة بهدف السكن أو الإقامة أو المعيشة و بهدف انجاز الأنشطة التي تقابل الاحتياجات العامة الناجمة عن الاشتراك في هذا المكان من خلال تدعيم أشكال الفعل الاجتماعي[3]، و يبدو أن تغلغل فكرة المجتمع المحلي في الذهنية المجتمعية دفعت و لا تزال بالفاعلين الاجتماعيين إلى الانصراف إلى خدمة وتنمية مناطقهم و جهاتهم المحلية فبأي معنى تطرح فكرة التنمية المحلية؟
ب- التنمية المحلية: تمثل التنمية المحلية المحرار المركزي لإشكالية وإستراتيجية التنمية الوطنية بصرف النظر عن النمط الاقتصادي و السياسي المنتهج،بما يعني أن التنمية الجهوية و المحلية هي المحدد و المقيّم للمجال الوطني للتنمية مثلما أنها هي التي تقف وراء نسق النمو و الإنتاج و المنافسة بالنسبة للاقتصاد الوطني[4] وكذا بالنسبة للتوازن و التكامل و الاندماج بين الجهات و المناطق، و قبل التوغّل في مدلول المحلي للتنمية و أبعاده من المفيد و المنهجي التطرّق إلى معنى التنمية عامة،حيث يتفق معظم الباحثين على أنها تنطوي على مجموعة من الأفعال التي تطمح إلى تلبية الحاجيات الأساسية و الثانوية ،المادية و الثقافية للأفراد و الجماعات و التي تطال مجموعة من المرافق من سكن وتشغيل و صحة و تعليم و ممارسة ثقافية و مشاركة فاعلة في الحياة الاجتماعية بطريقة يكون فيها الإنسان محور العملية التنموية وتأكيدا لهذا التوجّه يعرّفها ألان توران على أنها مجموعة من الأفعال التي تمكّن الجماعة من الانتقال من نمط مجتمعي إلى نمط آخر متطوّر أكثر مشاركة و تدخلا من قبل أفراد المجتمع[5] بينما يعتبر المفكّر الاقتصادي Perroux التنمية عملية تكامل للتحولات الذهنية و الاجتماعية لجماعة ما بما يجعلها قادرة على مراكمة منتجها الحقيقي الجملي كميا و بصفة مستدامة[6]،في مقابل هذا الطرح لمعنى التنمية الوطني هل يشكّل المفهوم المحلي للتنمية مفهوما مضادا للوطني أو المركزي؟ أم انه بعدا جديدا تكميليا؟يبدو من خلال العديد من الأبحاث التي اشتغلت على مسألة المحلي في التنمية و لا سيما منها تلك التي اهتمت بالعالم العربي اعتبرت أن المفهوم المحلي للتنمية شكّل بمثابة الثورة الهادئة[7] في علاقة بالنسق العالمي للتنمية الذي لم يلغي المفهوم الوطني و إنما ظل هذا الأخير يلعب دور الوسيط ما بين المحلي و العالمي،بينما المحوري و الأساسي أن بروز فكرة المحلي يبقى رهين وجود فاعلين جدد على الساحة الاقتصادية و الاجتماعية والثقافية الحاملين للواء التقدم عبر إستراتيجية تهدف إلى توسيع نطاق نشاطهم وفاعليتهم، ويكون أيضا رهين تمثل قوي من هؤلاء لمقولات مثل الانتماء و الأرض و التاريخ والثقافة و الحمى المحلي عامة،و عموما تعرّف التنمية المحلية بأنها عبارة عن مسار مبادراتي وتلقائي من جانب فاعلين ينتمون إلى تجمع عمراني ضمن مجال حموي محدد يهدفون من وراء ذلك إلى المساهمة في الحركية التنموية الوطنية الشاملة و قد يكون ذلك في شكل فائض قيمة اقتصادي أو ثقافي أو اجتماعي أو فضائي، فهي بالتالي منتج له مواصفات وطنية شاملة لكنه نابع و مبني ضمن مجال حموي ضيّق[8] و بتعبير أدق هي مقاربة طوعية ترتكز على المجال المحلي الضيّق و تعتقد أن التنمية الحقيقية إنما هي تلك التي تنطلق من المستوى القاعدي موظفة بذلك كل الإمكانيات المحلية و الموارد الخصوصية و القيم الثقافية الذاتية التي تدعو إلى التعاون و التضامن و غيرها، و معارضة في ذلك فكرة المركزية والمحورية التي تعد من أهم أسباب نشوء فكرة التنمية المحلية في المجتمعات الغربية في فترة الخمسينيات من القرن الماضي، بما يجعل المقاربة المحلية للتنمية بمثابة البديل في مواجهة السياسات الشمولية و الكليانية التي تنتهجها الدول و الحكومات فيما يتعلق بمنوال التنمية،أو ربما هي ردة فعل من جانب الفاعلين الاجتماعيين المحليين بغية إحداث نوع من التوازن الجهوي، و إبراز قيمة المجال المحلي و خصوصيته في المسار التنموي برمّته، ولكن قد تحصل المبادرة المحلية للتنمية بالاشتراك و التوافق مابين الدولة و الفاعلين الاجتماعيين للتنمية أو بالتحديد بإعاز من الدولة لحفز همم المستثمرين و ترسيخ روح المبادرة و ثقافة المنافسة و عقلية الربح و هذا ربما ما يتماشى وتجربة الفعل السياحي بالساحل التونسي فما هي حقيقة هذا الفعل التنموي المحلي ؟
2- في المجال المحلي الساحلي:
أ- الفعل السياحي بالساحل و أهمية الحراك المتولّد عنه: شكّل المجال المحلي الساحلي القطب السياحي الأول في البلاد و هو الذي دفع بالسوق السياحية التونسية إلى أن تختص في منتج سياحي شاطئي نتيجة ما شهده هذا المجال من انفجار سياحي شاطئي في فترة السبعينات و الثمانينات و التسعينيات خاصة من القرن العشرين،على أن هذا الحظوة التي حظيت بها جهة الساحل فيما يتعلق بالنشاط السياحي تعزى إلى اعتبارات تاريخية و مناخية و ثقافية و اجتماعية بوأتها بان تتصدّر الاستثمارات السياحية عشية الاستقلال، لكن تعزى هذه الحظوة المبالغة إلى الإرادة السياسية الجامحة للنهوض بهذه المنطقة المحلية.فلا غرابة أن يحظى الساحل بعطف واهتمام كبيرين، لاسيما و أن سكان الساحل ساهموا مساهمة فعالة في تأسيس حزب الدستور الجديد و شاركوا فعليا في حركة التحرير ثم في تسيير دفة الحكم بعد الاستقلال، ناهيك أن رئيس الجمهورية و الوزير الأول ومعظم الوزراء والإطارات العليا لاسيما في السنوات الأولى من الاستقلال كانوا أصيلي جهة الساحل. عموما، كان تدخل الدولة بصفة مباشرة باعتبارها الباعث السياحي الأول و غير مباشرة عبر التشجيع المتواصل لأبناء الجهة و التونسيين الآخرين و كذلك الأجانب من أثرياء دول الخليج، خاصة من الكويت و السعودية للاستثمار في السياحة بجهة الساحل.
و هكذا يتبن و أن الخصوصية التاريخية النادرة و الأرضية الاقتصادية الخصبة لمنطقة الساحل كل ذلك، إذا أضفن إليه مجموعة سكانية متجانسة و متقاربة متحفزة لكل أشكال العمل و الاجتهاد ومستوعبة لكل متطلبات التقدم تتميز بروح المجازفة و المبادرة راسخة القدم في أصولها، ووراء كل هذه الإمكانات إرادة سياسية متحمّسة جعل من منطقة الساحل التونسي تعيش دوما على وقع ديناميكية سريعة و متواصلة و منطقة جذب إلى اليوم.
وغني عن البيان أن تركيز العديد من المؤسسات السياحية بجهة الساحل كان قد خلق حركات النزوح التي نشطت كثيرا من الأرياف باتجاه المدن الساحلية،مما أضفى على هذه المدن ديناميكية حضرية و تجارية و صناعية، و شكل أحياء و منشآت موازية للمنشآت السياحية لتلبية حاجيات القطاع السياحي من السلع و الخدمات، و بالتالي حمل القطاع السياحي الحل الأنسب لمشكل البطالة. و تدريجيا بوأ النشاط السياحي و معه الصناعي منطقة الساحل بأن تكون على الدوام قبلة النازحين من كل جهات الجمهورية بحثا عن موارد الرزق و المرافق الضرورية، فكانوا أن وجدوا في ربوع الساحل ضالتهم من حيث الشغل و المرافق الضرورية. و قد مكّن القطاع السياحي من التخفيض من نسبة البطالة ليس على مستوى جهة الساحل فحسب، و إنما على المستوى الوطني عامة مثلما مكّن من تحسين الدخل السنوي و تحسين نمط عيش المواطن و توفير جودة الحياة المطلوبة، على أن كل هذه الامتيازات الحضرية لم تكن لتتوفر على الأقل بالسرعة المرجوّة لو لم يكن النشاط السياحي واقع الحال ممكنا، لأن تنامي النشاط السياحي بالساحل كان يفوق مرتين النسق العام في الجمهورية ككل و هذا ما تدل عليه الإحصائيات في سنوات الاستقلال الأولى وذلك في مستوى حجم الاستثمارات أو عدد الليالي السياحية المقضاة و كذلك حجم المبيعات، و عشية اعتماد الدولة التونسية سياسة المخططات التنموية وانطلاقا من المخطط الأول (1962- 1964 ) كانت حصة السياحة ضمن هذا المخطط بارزة، بجهة الساحل تجسدت في إقامة مؤسستين بالمنستير هما نزل الاسبلاناد و قصر صقانس و مؤسستين بسوسة هما نزل بوجعفر و نزل الرياض، و في نهاية هذا المخطط أظهرت الإحصائيات بما لا يدع مجالا للشك مدى وجاهة و صحة الاختيار لمنطقة الساحل لتكون بوابة البلاد التونسية للسياحة، بدليل ما تحقق من 143.000 ليلة سياحية و حجم مبيعات بلغ 1.094000 مليون دينار بالنسبة لجهة الساحل. و قد كان هذا كافيا لإحداث منعرج حاسم في الاستثمارات السياحية في ربوع الساحل من قبل الخواص لما وجدوه من تشجيع سواء من قبل الدولة أو المؤسسات المالية، و هو الرهان الذي عملت من أجله الدولة لإقناع الخواص بغية الاستثمار و المجازفة. و بذلك تحولت مساهمة الدولة في الاستثمارات السياحية من 90% سنة 1962 إلى 10%فقط سنة 1971[9]. و في المقابل ارتفعت مساهمة الخواص لتحتل مكانة الدولة سابقا، و لعل أبرز ما تختص به الاستثمارات السياحية بالساحل كون الباعثين في معظمهم أصيلي الجهة و تحدوهم الرغبة في الرفع من مستوى المنطقة و الارتقاء في السلم الاجتماعي. مثلما يعزى الحماس الفياض و الانخراط التام واللامشروط ضمن خيارات الدولة لبعض الباعثين الأوائل إلى ما يكنونه من محبة واحترام و بالتالي اعترافا بالجميل إلى ابن الجهة ” المجاهد الأكبر ” الزعيم الحبيب بورقيبة،[10] و هذا لامسناه في الحقيقة من خلال المقابلات التي قمنا بها مع الباعثين السياحيين. و منذ ذلك الحين شهدت السياحة التونسية عامة و الساحلية خاصة انفجارا حقيقيا من حيث عدد المؤسسات السياحية و الليالي السياحية و خاصة حجم العائدات. و قد استطاع الساحل التونسي أن يظهر منتجا سياحيا فريدا أصبحت فيما بعد تختص به البلاد التونسية تمثل في السياحة الشاطئية . إن كل هذه المعطيات ظلت عبر التاريخ ترغّب في الساحل و تحفّز السياح من كل حدب و صوب بأن يأتوا ليستمتعوا بكل ما جادت به الطبيعة. و كان من الطبيعي أن تنتبه سلطة الإشراف إلى أهمية السياحة الشاطئية وتجعل منها خصوصية السياحة التونسية في المخطط الرابع بتهيئة مناطق سياحية أخرى و تدعيم المناطق التقليدية، و كان أن أدخلت منطقة المهدية ضمن هذه المخطط حيز التهيئة و الاستغلال. و قد تميز أبناء الساحل دوما بالقدرة على المجازفة و المبادرة لا سيما فيم يتعلق بالمقاولة السياحية التي كانت الطريق الأسرع والأسهل لتكوين الثروة و الرقي الاجتماعي و في كل مرة كانت الدولة لا تتوانى عن تشجيع الباعثين و دفعهم باتجاه هذا الخيار الاستراتيجي السياسي- الاقتصادي.و قد استطاع الباحث الفرنسي Miossec من تأكيد هذا الخيار عقب دراسته الميدانية لمكانة السياحة في تونس عندما أثبت أن أصيلي الساحل استأثروا بنسبة 39.67 %[11] من جملة الاستثمارات السياحية في البلاد التونسية. ورغم أن القطاع السياحي معروف بهشاشته وتأثره بكل الأحداث المحلية و العالمية، و رغم الأزمة التي عرفتها السياحة الدولية في السبعينات من القرن الماضي، فإن الإحصائيات تبرز عدم تأثر جهة الساحل بل كانت تشهد نفس التدفق من حيث عدد المؤسسات السياحية و عدد السياح. فكان الحراك الاجتماعي الذي يشهده الساحل يستند بالأساس إلى النشاط السياحي حيث كانت تداعياته على مختلف الأصعدة و المجالات لا فقط على المستوى المحلي و إنما طال المستوى الوطني لعل أبرزها قطاع التشغيل و اليد العاملة. والملاحظ أن اليد العاملة المشتغلة بالقطاع السياحي معظمها من أصول محلية أو جهوية، بل إن حجم اليد العاملة الساحلية في السياحة يتعدى جهة الساحل ليشمل جهات الجمهورية الأخرى. و عموما، فان اليد العاملة الساحلية في المجال السياحي مثلت في بداية الثمانينات 5/4 اليد العاملة السياحية الجملية في تونس، وهذا يمكن أن يعزى إلى عوامل عدة من بينها، أن أبناء الساحل منفتحون من أول التاريخ على العديد من الشعوب والحضارات الأخرى – بل و زادتهم السياحة تفتحا و تحضرا- وجاهزية للتعامل و التواصل ضمن أي مجال مهني، فضلا عن تميزهم من حيث المستوى التعليمي عن بقية الجهات الأخرى و قدرتهم على استيعاب و حذق أي مجال مهني أو تقني جديد. كما يمكن أن يعزى عدم تواجد أبناء الجهات الأخرى في القطاع السياحي بشكل واضح ربما إلى خشية عائلاتهم من مغبة انحرافهم الأخلاقي لما يعتري القطاع السياحي من مواد استهلاكية محظورة دينيا واجتماعيا، و ما يتصل بالخدمة السياحية من سلوكات وممارسات قد تتعارض مع قيمنا و أخلاقياتنا. و هكذا فوجود الساحلي في النشاط السياحي بكثرة لم يكن وليد الصدفة و إنما ترسخ هذا النشاط المهني ضمن الذهنية العامة لا سيما لدى الأجيال الصاعدة بحكم تواتره في المنطقة وتوفر الأرضية الاجتماعية الملائمة لتقبله. و بازدهار النشاط السياحي في المنطقة ازدهرت العديد من القطاعات الأخرى وارتقت عائلات عديدة في السلم الاجتماعي. و يبقى الحراك الاجتماعي الأبرز و المضاعف بجهة الساحل وذلك في تقدير الجغرافي رضا لامين ذلك الذي استهدف العلاقات الاجتماعية و الاقتصادية التقليدية، حيث التحوّل من أنماط إنتاجية ما قبل رأسمالية تتسم بالموسمية وخاصة بتعاقب فصول الزيتون، باتجاه أنماط إنتاجية رأسمالية تطغى عليها الأنشطة الصناعية و السياحية و التجارية[12]. والحقيقة أن عدد القطاعات التي تتمفصل وقطاع السياحة كبير و يصعب حصرها، لكن الثابت أن التحضّر المتولّد عن الفعل السياحي كان على غاية من الشدة فكانت له تأثيرات سلبية و خطيرة أحيانا من أخطرها مسألة الاستحواذ العقاري على المساحات الزراعية والأراضي الفلاحية بصفة اختيارية أو قسرية، ودفع المتساكنين إلى التخلي على الأنشطة الفلاحية و خاصة الشباب لما يعتريه هذا القطاع من تعب و إرهاق، و الالتحاق بقطاع الخدمات سواء في المجال السياحي مباشرة أو بأحد القطاعات التي تتمفصل معه. و هو ما من شأنه أن يؤثر على التوزيع القطاعي لليد العاملة النشيطة. و أمام ارتفاع الكثافة السكانية و شدة التحضر يقول محمد الجديدي ” وحتى المساحات الزراعية المتبقية كيفما كانت داخل البلدية مآلها الانقراض تحت وطأة الزحف الحضري، مما يزيد في حدة البور الاجتماعي بل و أيضا يؤدي إلى انعكاسات سيئة على التوازن البيئي “[13]. فعدم احترام التوازن الهيكلي للمجتمع يؤثر تأثيرا عميقا على بنية المجتمع لأن كل مجموعة اجتماعية سواء كانت جهة أو دولة تختص بتركيبة إيديولوجية و ثقافية و دينية تسجل مع نمط نمو اقتصادي معيّن. و في هذا السياق أثبتت بعض الدراسات الميدانية بالجهة[14]أن الانعكاس السلبي الأهم للسياحة بالجهة، وحسب وجهة نظر الفئات الاجتماعية التي جاهرت باستيائها من السياحة هو تغيّر سلوك بعض الشبان الذين ينبهرون بصورة النزل الرفيعة و هيبتها فينقطعون عن الدراسة مبكرا و يتوجهون للعمل في النزل و لو بأجور ضعيفة و ذلك في ظروف صعبة . وهكذا فان ما نتبينه أن الحراك الاجتماعي المتولّد عن النشاط السياحي بجهة الساحل كان على غاية من العمق و الهيكلية، غير أنه لم يخلو من التداعيات السلبية جراء عدم الاستشراف الجيّد والشامل لمستقبل الفعل السياحي.فجيّد أن تتوفر مواطن الشغل وأن تكون العائدات في مستوى الآمال، و أن تنعم الأفراد و الجماعات بمرافق الحياة الحضرية و رغد العيش. لكن لا أن يكون كل ذلك على حساب توازن المجتمع الثقافي والاقتصادي و البيئي .
ب- طبيعة النموذج المقاولي السياحي بالساحل التونسي: إن تاريخ المقاولة عامة في الساحل يمتد إلى ماض بعيد، غير أن المقاولة بمفهومها الحديث المتمثل في القدرة على خلق و إنشاء التنظيمات العلمية كان حديثا نسبيا. و عموما، فان اجتماعية الساحل كانت تنطوي على مقومات ثقافة المقاولة، و دليل ذلك أنه بمجرّد أن اتخذت الدولة عشية الاستقلال من السياحة خيارا استراتيجيا لكسب معركة التنمية، انخرطت العديد من الأفراد و الفئات البورجوازية ضمن هذه السياسة تحدوها روح المبادرة و المجازفة و الرغبة في الحظوة والوجاهة و السيادة، فنشطت حركة المقاولة السياحية و تميزت سيرورتها بالتنامي السريع، لأن تمثل الساحلي للفعل المقاولي فيما يبدو يستند إلى عوامل عائلية واجتماعية ونفسية بالأساس،بدليل أن معظم المؤسسات السياحية تعود ملكيتها إلى أصول ساحلية. فالساحلي يتصف بتمثل قوى لمقولة الانتماء الاجتماعي، و في هذا السياق يصبح التشابه واردا جدا ما بين الفعل المقاولي الصفاقسي حسب دراسة Denieul[15] والفعل المقاولي الساحلي. فكما هوالشأن للمجتمع الصفاقسي، تسيطر على المجتمع المحلي الساحلي رمزية الأرض والمحلي و هي أخلاقيات تستمد جذورها من الأخلاق الدينية الإسلامية، التي لها تأثير كبير على الحياة الاقتصادية و تؤكد تفوقها في كل مرة على الأخلاق الإيديولوجية و السياسية الأخرى. وهكذا فالمراد بالبيان أن الظاهرة المقاولية في الساحل لم تبدأ مع النشاط السياحي و إنما تنطوي على إرث دسم و متنوع ما بين النشاط الفلاحي و التجاري و الصناعي مما ولّد أرضية مقاولية، ناهيك و أن خصوصية الفعل المقاولي الساحلي تكمن في قدرته على الاستثمار في مجالات اقتصادية مختلفة.وعلى عكس بعض جهات الجمهورية فان المقاول الساحلي استطاع أن يوجد ذلك الانسجام مابين النشاط السياحي والنشاط الصناعي خاصة،بدليل أن معظم المقاولين السياحيين اليوم تميزت أنشطتهم المقاولية بالتنوع[16].على أن روّاد المقاولة السياحية الأوائل لم يكن مجال استثمارهم الأول السياحة. والمفيد أن النسيج المقاولي الساحلي بما هو منظومة ثقافية ترسّخت في الذهنية العامة للمجتمع الساحلي، و ظل هذا النسيج امتدادا للعديد من الأجيال عبر وراثة الأبناء المؤسسات والشركات عن الآباء و مواصلة مسيرة المقاولة، فالإرث العائلي يلعب دوره في تكوين وتطوير و إعادة إنتاج المقاولة . ويمكن أن يعزى نجاح المقاول الساحلي إلى الدعم القوي من السلطة السياسية، و إلى نوعية العلاقات و الاستراتيجيات التي ينسجها المقاول ذات البعد الزبوني و الولائي. أي تلك العلاقات التي تستند إلى التبعية والمصلحية بعيدا عن الأطر الرسمية العقلانية، و هي التي تنطوي عليها المقاربة الاستزلامية. فنجاح المشاريع وصعود الباعثين الجدد يعود بالأساس إلى الاستراتيجيات التي تمر حتما بالشبكات المحلية والوطنية للعلاقات الاجتماعية- السياسية[17]. ذلك أنه من العوامل البارزة والقوية التي جعلت من البورجوازية الساحلية فئة مقاولية،تلك المتمثلة في الدعم الكبير و المتواصل من قبل الدولة لها. و قد شكلت حقبة السبعينات من القرن الماضي المنعرج الحاسم بامتياز للفعل المقاولي السياحي الساحلي، و التي تزامنت في الآن نفسه مع تصاعد الايديولوجيا الرأسمالية التي تفترض أن تنمية رأس المال مرتبطة بالاستثمار المنتج وليس بالاستثمار الترفي و الكمالي.و محصلة القول أن المقاولة السياحية لم تكن واقع الحال ممكنة من أصول ساحلية لو لم تجد أرضية مقاولية سانحة سواء من حيث التسيير و التدبير أو من حيث التمويلات، لا سيما و أن المشاريع السياحية تتطلّب تمويلات باهظة.كما أن المجازفة بالاستثمار ضمن المجال السياحي ليست بالسهلة بالمرة. دون التغاضي كذلك عن دور العوامل الطبيعية و المناخية و خاصة السياسية التي ساهمت في تحويل العديد من الأحلام إلى واقع. كذلك من بين العوامل التي أسست لثقافة المقاولة في الساحل هي بلا شك العامل التعليمي او الدراسي،حيث الثابت أن العائلات الساحلية كثيرا ما تحرص على تعليم أبنائها مهما يكن مستوى دخلها حتى و إن أدى ذلك إلى بيع جزء من ملكيتها العقارية، لأن الاستثمار يتطلّب حدا أدنى من التعليم و المعرفة. بقي أن ما تحسن الإشارة إليه وفق هذا المستوى أن الاستثمار في المجال السياحي في الساحل عادة لا يكون أولى المبادرات المقاولية بالنسبة لمعظم الباعثين السياحيين، و قد ثبت ذلك من خلال دراسة ميدانية[18] شملت أهم الباعثين السياحيين بالساحل أن الروّاد الأوائل المؤسسون لنواة الفعل المقاولي السياحي معظمهم لم يكن مجال استثمارهم الأول السياحة. و ربما يبرر هذا التمشي المقاولي فيما يبدو بأن المنتج السياحي عامة هو في النهاية استهلاك ترفي تفاخري لم يرتق بعد في المجتمع التونسي إلى استهلاك ضروري حاجي، مما يجعل نشاطه موسميا متقطعا و غير مضمون الربح، فضلا عن كون المشروع السياحي يتطلّب تمويلات ضخمة لذلك عادة ما يقع إرجاؤه إلى ما بعد الخوض في تجارب مقاولية تتصل بقطاعات اقتصادية أخرى بغية اكتساب النضج و الخبرة في مجال المقاولة و بالتالي تحصيل الموارد المالية الكافية. و الملاحظ أن خصوصية أخرى تحسب للنموذج التنموي المقاولي بالساحل تلك المتمثلة في تنوع مجال الاستثمارات و تكملة بعضها للبعض الآخر. فعلى سبيل الذكر لا الحصر تجربة السيد “علي مهني” في مجال المقاولات السياحية بدأت بمجال الدهن حيث كان “علي مهني” حرفيا في الدهن ثم بتنامي رأس المال كون مؤسسة في البناء و الدهن، ثم جاءت بعد ذلك الرغبة في دخول مجال السياحة، بما أن أغلب المنشآت السياحية و الإدارية في بداية الاستقلال كان هو يتولى بناءها. و هو تمش ينم عن تفكير رأسمالي يهدف إلى التخفيض قدر الإمكان من كلفة الإنتاج واستثمار القيمة المضافة في تنمية رأسمال المؤسسة و تحقيق مزيدا من الربح.
وصفوة القول أن القراءة السوسيولوجية للفعل المقاولي في الساحل و ما أنتجه من تنمية التي لم تطل المستوى المحلي فحسب و إنما طالت المستوى الوطني، كشفت حقيقة عن نموذج مقاولي يمكن أن يحتذى به، على اعتبار ما ينطوي عليه من خصوصيات يمكن اختصارها في كونه مستمد من طبيعة التنشئة الاجتماعية و الثقافية المحلية. إذ أن الباعث
السياحي كثيرا ما يستثمر ارثه العائلي الاجتماعي الثقافي بما يحتويه من معتقدات وإيديولوجيات و مواقف أخلاقية وسلوكية للتعامل مع مشروع المقاولة. فمجرّد التفكير في إنشاء مقاولة لا ينبع من طبيعة السياق التاريخي و الاجتماعي المعيش لحظة إذن، وإنما وليد تراكم تاريخي اجتماعي ثقافي بالأساس.و تأكيدا لذلك أثبتت العديد من الدراسات أن أصول الباعثين السياحيين جلّها من أوساط اجتماعية و جغرافية صغيرة بينما[19]استطاعوا أن يكتسبوا ثقافة مقاولية عبر تنشئتهم وتفاعلهم مع الأحداث والوضعيات المحيطة، سواء باستغلال ارثهم العائلي أوعبر الانخراط في الحياة السياسية و الاجتماعية واستغلالها لفائدتهم.
ج-إلى أي مدى حقق الفعل المقاولي السياحي دوره الخصوصي التنموي في الساحل التونسي:
لعلّه من الثابت أن طرح المسألة التنموية بالساحل التونسي يبقى عقيما و أجوف دون طرق القطاع السياحي الذي يشكّل ركنا أساسيا من أركان الاقتصاد المحلي،لذلك فليس من الاعتباطي و المجاني أن نعتمد ضمن هذه المحاولة الفعل السياحي كنموذج للتنمية المحلية، بغية الوقوف عند أهم الأدوار و النتائج المترتبة عن الفعل السياحي ضمن اجتماعية الساحل وسوف نستند إلى نتائج الدراسة الميدانية السوسيولوجية التي قمنا بها بجهة الساحل بخصوص الباعث السياحي، و الحقيقة اننا قبل طرق موضوع السياحة من الوجهة السوسيولوجية طرحنا على أنفسنا العديد من الأسئلة النظرية للتحقق من مدى جدوى ونجاعة طرح الفعل السياحي كموضوع سوسيولوجي،بمعنى هل أن المؤسسة السياحية شكلت حقيقة أدوارا ريادية أثرت في النسيج الاجتماعي و الاقتصادي والثقافي، حتى تحظى بأن تكون مدار بحث سوسيولوجي ؟ أم أنها كانت مجرّد مؤسسة اقتصادية شأنها شأن بقية المؤسسات الأخرى ؟
بيّنت معظم المعطيات الميدانية أن الفعل السياحي بالساحل التونسي استطاع تاريخيا أن ينحت صورة مميزةImage de marque للسياحة التونسية عامة ضمن المشهد السياحي العالمي تجسّدت باختصار في الوجهة السياحية الشاطئية، الأمر الذي يحيلنا على حقيقة سوسيولوجية مفادها أن الدور السياحي للمؤسسة السياحية بالساحل ثابت أثناء السيرورة التاريخية رغم انحصاره في النمط الشاطئي البحري و دليل ذلك تفضيل الوجهة السياحية التونسية من بين الوجهات السياحية الدولية الأخرى من قبل السائح الأجنبي فقط للتلذذ بشواطئها و بحارها. بالرغم أن الجهود مبذولة باتجاه تنويع المنتج السياحي وإثراء الدور السياحي للمؤسسة السياحية. لكن الصورة الأولية التي طبعت السياحة التونسية بقيت شاطئية، ناهيك أن العرض السياحي إذا ما قدم للسائح دون سياحة شاطئية لا يمكن أن يحقق له الإشباع،و هذه النتيجة دليل واضح على أهمية التمشي المحلي في التنمية عندما تكون له تداعيات ايجابية على المستوى الوطني. و قد أكدت بعض الدراسات الميدانية[20] الهامة في هذا السياق أن نسبة السياح الذين يأتون فقط لغاية السياحة الشاطئية يصل إلى 55 %. لذلك تبدو تداعيات الفعل السياحي واضحة للعيان على جميع مستويات البنية الاجتماعية من ذلك أن حجم الحراك الاجتماعي المتولّد عن الدور المركزي للفعل السياحي بمنطقة الساحل، الذي وان طغت عليه الصبغة الشاطئية، فانه حقق الاستدامة و أنتج حركية واسعة النطاق و ساهم في تعميم مسألة الرفاه الاجتماعي والارتقاء بمستوى الوعي و التفكير والسلوك. وقد لمسنا إجماعا تاما من جانب المبحوثين حيال الدور التنموي الذي ترتّب عن الفعل السياحي.اذ لا يستطيع أحدا في جهة الساحل إنكار التداعيات الايجابية التي خلفتها المؤسسات السياحية سواء من حيث مواطن الشغل المباشرة و غير المباشرة، والتي جعلت من منطقة الساحل دوما من المناطق الأقل تعرضا لمشاكل مثل البطالة و الفقر.أو كذلك من حيث انتشار ما يسمى بالرفاه الاجتماعي المتصل بكل ما يتعلق المرافق الأساسية و تحسين جودة الحياة و أمثلة التهيئة التي شملت أراضي و مناطق و أحياء. كل ذلك كان تحت تأثير انتشار المؤسسات السياحية. و قد أشار في هذا الصدد الجغرافي محمد الجديدي إلى أن نسق النمو السياحي في الساحل[21] كانت سرعته توازي مرتين ما هو كائن في بقية جهات الجمهورية مما مكّنه من تحقيق قرابة ربع أهداف المخطط الرابع للتنمية في فترة السبعينات من القرن الماضي. فوقّع التحول الاجتماعي جراء الفعل السياحي ثابت وتداعياته التي لامست كل مجالات الحياة الاجتماعية شاهدة عليه ولا سيما في فترة الثمانينات و خاصة التسعينات من القرن العشرين، عندما بلغت الاستثمارات السياحية ذروتها ووصلت العائدات السياحية أوجها. و تولدت حينها و بمفعول النشاط السياحي في منطقة الساحل منظومة من القيم و السلوكات المستحدثة التي ترغّب في النشاط السياحي سواء كممارسة ترفيهية أو كنشاط مهني. و من الأدوار الخصوصية للمؤسسة السياحية تلك التي تندرج ضمن ترسيخ الممارسة السياحية في النسيج الاجتماعي المحلي، أو ما يعرف بالسياحة الداخلية، فقد بيّنت الدراسة الميدانية أن نسبة انطلاق التونسي باتجاه الممارسة السياحية لا يزال ضعيفا بالنظر إلى ضعف القدرة الشرائية و تنامي الاحتياجات الإنسانية، بينما ظل الباعث السياحي على امتداد المسيرة التاريخية للفعل السياحي يتعامل مع السياحة الداخلية بشكل عشوائي هامشي دون سياسة واضحة و رغبة حقيقية في تنمية وعي التونسي بالممارسة السياحية، إلا في السنوات القليلة الماضية،في ظل التحولات الاجتماعية المحلية و العالمية و تحديات المشهد السياحي المعولم حيث تنبه إلى ضرورة تفعيل السياحة الداخلية. و قد برهنت الدراسة الميدانية أن أكثر من 75 %[22] عبّروا عن مراهنتهم على السائح التونسي على أن هذه المراهنة تبقى باستمرار محفوفة بكثير من الحذر و المتابعة والتحسيس، لأن ممارسات التونسي لا يزال يكتنفها الكثير من التخلف و التلقائية المفرطة المؤدية إلى الهمجية أحيانا. و في السياق نفسه تبقى الأسعار السياحية المعتمدة للتونسي مقبولة. بقي أن عدم اكتراث التونسي بالسياحة يعزى إلى عدم الوعي الحقيقي بقيمة هذه الممارسة إضافة إلى تعدد المناسبات الاحتفالية التي تستنزف أموالا طائلة قد تمنع التونسي من التفكير أصلا في السياحة و الترفيه.
و على الرغم من ضعف الممارسة السياحية من جانب التونسي فان المتتبع الرصين لحركية الفعل السياحي واستدامته على امتداد نصف قرن مكّن من إحداث مسارا تنمويا بجهة الساحل نشطت من خلاله جل القطاعات الاقتصادية.
في المقابل يعتبر مجموعة من الباحثين أن التخطيط التنموي للفعل السياحي منذ بداياته لم يأخذ بعين الاعتبار الجوانب الاجتماعية و الثقافية لذلك أنتج هذا الفعل الكثير من التداعيات السلبية المتعلقة بالمستويين الاجتماعي و الثقافي أو قل بالمنظومة القيمية و المعيارية عامة و يذكر الدكتور عبد الوهاب بوحديبة في هذا الصدد “إن الملاحظ ضمن السياسة السياحية لتونس أن الاعتبارات الاقتصادية هي الوحيدة المأخوذة بعين الاعتبار ضمن الاستثمار والتنمية السياحية بينما تبقى العناصر الإنسانية و الثقافية هامشية ، في حين تبدو الانعكاسات الإنسانية و الثقافية للسياحة على المجتمع المحلي ثابتة على مستوى المواقف والقيم و المعتقدات و بالتالي من حيث رؤية العالم … و باختصار فان السياحة هي عامل تثاقف في أسوأ حالات المفهوم عندما تكون وسيلة للفساد الأخلاقي”[23]و ذلك من حيث تكريس قيم التحرر و الانعتاق من الضوابط الاجتماعية.و عموما فان ما يؤاخذ على المؤسسات السياحية أنها مكنت من تعرية بعض الظواهر الاجتماعية التي كانت متوارية مثل ظاهرة الشذوذ الجنسي و التزلف و غيرها.
ملاحظات ختامية:ما نخلص إليه من خلال تفحّص تجربة الفعل المقاولي السياحي بالساحل أن تداعياته التنموية ثابتة وملموسة سواء على المستوى المحلي أو الوطني من حيث الحركية الاقتصادية التي شملت جل القطاعات أو من حيث مسألة التشغيل المباشرة و غير المباشرة ، غير أن البحث الميداني و المعايشة اليومية لسيرورة تشكّل المقاولة السياحية أظهرا اختلالات عديدة صلب الفعل السياحي من المفيد الإشارة إليها من ذلك أن الفعل السياحي المقاولي باعتباره فعلا تنمويا امتزج بكثير من الضبابية و الارتجال مما أفقده ما يعرف بالخصوصية و الهوية المهنية، مما جعل من فكرة المقاولة باعتبارها خلق و تجديد وإنتاجا لمجموعة من القيم و الأخلاق مسألة لا تزال مبتورة من حيث التغلغل الذهني والممارسة الميدانية، مما يجعل من الفعل السياحي ينحو إلى التصنيف المؤسسي الذي يهدف فقط إلى إنتاج مجموعة من الخدمات و تسويقها، وربما هذه النتيجة لها ارتباط وثيق بشخصية الباعث السياحي و سيرته الذاتية لأنه تبيّن من خلال العديد من الأمثلة أن هذا الباعث يعيش أزمة ذات و أزمة مكانة اجتماعية مما يجعله ينظر إلى مشروعه السياحي على أنه إنجاز تفاخري هيبوي يحقق له الحظوة و الوجاهة ،و الملاحظ أن هذا القصور في مستوى الفعل المقاولي قد عوّض في الكثير من الحالات ، بقدرة الباعث السياحي على إقامة شبكة من العلاقات الاجتماعية و السياسية لخدمة مشروعه السياحي ناهيك أن المشاركة السياسية و الاجتماعية تبدو لبعض الباعثين السياحيين جزء لا يتجزأ من مشروع المقاولة و هذا ما يجعل من الفعل السياحي موضوعا سوسيولوجيا بامتياز.
قائمة المراجع :
المراجع العربية:
1- السيد عبد العاطي السيد،”الإنسان و البيئة”، دار المعرفة الجامعية،الإسكندرية،1983.
2- عادل بوزيد،المؤسسة السياحية في الساحل التونسي :”التمثلات و الثقافة والأدوار: الباعثون السياحيون مثالا تطبيقيا”،أطروحة الدكتوراه في علم الاجتماع،كلية العلوم الإنسانية و الاجتماعية تونس 2010.
3- محمد شلغمي، “السياحة و التنمية في المنستير”، أطروحة الدراسات المعمقة في الجغرافيا، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية تونس،2001.
4- نور الدين ستهم،” السياحة في تونس”، تونس ، سيراس للنشر، 1994.
المراجع الفرنسية:
1- Bouhdiba (A.), Raisons d’être, Cahier de Cérès, Série Sociologique, Tunis 1980.
2-Denieul(P.N),Les entrepreneurs du développements : l’ethno industrialisation ( la dynamique de Sfax), Paris, éd. L’Harmattan, 1992.
3- Groupe de recherche, Etude du plan directeur de développement du tourisme en République Tunisienne: esquisse du rapport final, 2002.
4- Jedidi (M.), Développement économique et social et espace urbain dans le sahel tunisien depuis l’indépendance, Thèse de Doctorat D’Etat es-letrres et sciences humaines (Geographie), Université de Paris VΙΙ, 1983.
5-Lamine (R.), Les citadins du sahel central : les mutations socio-spatiales vers la citadinité, Thèse de doctorat d’Etat en géographie, Faculté Sciences Humaines et Sociales de Tunis, 1998.
6-Perroux(F), L’économie du XXème siècle, 2éme éd. Paris, P.U.F,1964.
7- Stambouli (F.), Ksar hellal et sa région : contribution à une sociologie du changement dans les pays en voie de développement, Thèse 3 cycle , Université de Paris , 1964.
8 -Touraine(A), La société dépendante, Paris, D.UCLOT, 1976.
المقالات العربية:
1- محمد الجديدي، ” تطوّر العلاقات بين المدن و المحيط في الساحل التونسي “، المجلة الجغرافية التونسية، عدد 15 ، 1987.
2- محمد الجديدي،” النمو الصناعي بالساحل التونسي”،المجلة الجغرافية التونسية عدد 1 ،سنة1978.
المقالات الأجنبية:
-1Belhedi Amor, “Développement régional et local”, quelques aspects du développement régional et local en Tunisie, cahiers du Cérès, séries géographique, N°20, Tunis1998.
-2Katalyn kolosy, « le développement local : réflexion pour une définition théorique du concept », annuaire horizon local de global net, 2006.
-3Lavergne(M)&Duvigneau(G),”Monde arabe : le retour du local”, peuples méditerranéens, N°72-73,Juillet- decembre1995.
-4 Nisbet (R.A),” Moral values and community”, International review of community development N.5, 1960.
[1] السيد عبد العاطي السيد،”الإنسان و البيئة”، دار المعرفة الجامعية،الإسكندرية،1983،ص368.
[2] Nisbet (R.A),” Moral values and community”, International review of community development N.5, 1960, P.82.
[3] السيد عبد العاطي السيد، نفس المرجع، ص 371.
[4] Belhedi Amor, “Développement régional et local”, quelques aspects du développement régional et local en Tunisie, cahiers du Cérès, séries géographique, N°20, Tunis1998, P33.
[5] Touraine(A), La société dépendante, Paris, D.UCLOT, 1976, P5.
[6] Perroux(F), L’économie du XXème siècle, 2éme éd. Paris, P.U.F, 1964, P155.
[7]Lavergne(M)&Duvigneau(G),”Monde arabe : le retour du local”, peuples méditerranéens, N°72-73,Juillet- decembre1995,P8.
[8] Katalyn kolosy, « le développement local : réflexion pour une définition théorique du concept », annuaire horizon local de global net, 2006, P1.
[9] نور الدين ستهم،” السياحة في تونس”، تونس ، سيراس للنشر، 1994، ص 86 .
[10] عادل بوزيد،”المؤسسة السياحية في الساحل التونسي :التمثلات و الثقافة و الأدوار:الباعثون السياحيون مثالا تطبيقيا”،أطروحة الدكتوراه في علم الاجتماع،كلية العلوم الإنسانية و الاجتماعية تونس 2010،ص149.
[11]Lamine (R.), Les citadins du sahel central : les mutations socio-spatiales vers la citadinité, Thèse de doctorat d’Etat en géographie, Faculté Sciences Humaines et Sociales de Tunis, 1998, p. 493.
[12] Lamine (R.), ibid, p. 317.
[13] محمد الجديدي، ” تطوّر العلاقات بين المدن و المحيط في الساحل التونسي “، المجلة الجغرافية التونسية، عدد 15 ، 1987 ، ص 17.
[14] محمد شلغمي، “السياحة و التنمية في المنستير”، أطروحة الدراسات المعمقة في الجغرافيا، كلية العلوم الانسانية والاجتماعية تونس ، 2001، ص 274.
[15]Denieul(P.N ), Les entrepreneurs du développements : l’ethno industrialisation ( la dynamique de Sfax), Paris, éd. L’Harmattan, 1992, p. 154.
[16]Lamine (R.), Les citadin du sahel central : les mutations socio spatiale vers la citadinité, Thèse de doctorat d’Etat en géographie, Faculté de Sciences Humaines et Sociales de Tunis 1998, p. 494.
[17] Lamine (R.), ibid., p. 495.
[18] عادل بوزيد،”المؤسسة السياحية في الساحل التونسي :التمثلات و الثقافة و الأدوار:الباعثون السياحيون مثالا تطبيقيا”،أطروحة الدكتوراه في علم الاجتماع،كلية العلوم الإنسانية و الاجتماعية تونس 2010،ص154
[19]Stambouli (F.), Ksar hellal et sa région : contribution à une sociologie du changement dans les pays en voie de développement, Thèse 3 cycle , Université de Paris , 1964, p. 313 .
[21] Jedidi (M.),Développement économique et social et espace urbain dans le sahel tunisien depuis l’indépendance, Thèse de Doctorat D’Etat es-letrres et sciences humaines
(Geographie), Université de Paris VΙΙ, 1983, p. 305.
[22] عادل بوزيد،”المؤسسة السياحية في الساحل التونسي :التمثلات و الثقافة و الأدوار:الباعثون السياحيون مثالا تطبيقيا”،أطروحة الدكتوراه في علم الاجتماع،كلية العلوم الإنسانية و الاجتماعية تونس 2010،ص248.
[23] Bouhdiba (A.), Raisons d’être, Cahier de Cérès, Série Sociologique, Tunis 1980, p. 216.